قصة من الواقع


رحم الله من قال (الواجبات أكثر من الأوقات). لقد لخص معاني كثيرة في جملة قصيرة.

بطل قصتنا يعاني كما يعاني غيره من كثرة الانشغالات مقابل قلة الأوقات. وكان قد قرر قبل مدة كتابة الأعمال والواجبات التي يريد القيام بها، فملأت قائمة أعماله ورقة كاملة من الجهتين، وأصبحت لا تفارقه. ولم يعلم ما كان ينتظره في الساعات القادمة من قدر الله تعالى.
انتهى الأسبوع، ونادى المنادي لأفضل صلاة فيه، فجر الجمعة، فلبى النداء، ثم جلس مع عائلته، أفطر معهم وأدى بعض الأعمال البسيطة، ثم بدأ يشعر بشئ من الغثيان. ليس من عادته الالتفات إلى هذه الأمور فهي تحصل له بشكل دائم.

اغتسل غسل الجمعة وتطيب، وضع ورقة المهام في جيبه، وذهب إلى الصلاة بمزيد من التعب والغثيان. أوقف سيارته بعيدا ومشى إلى المسجد. دخل مبكرا فصلى وقرأ القرآن حتى دخل الخطيب فأنصت للخطبة محاولا تجاهل ما يشعر به. حتى إذا أقيمت الصلاة، ووقف في الصف، ودخل في الصلاة مع الجماعة، بدأ الغثيان يزداد ويزداد بشكل متسارع، مصحوبا بدوار شديد متزايد، فقال (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفتح عينه فإذا هو على الأرض وجماعة من المصلين فوقه يحاولون إسعافه.

هكذا حصل الأمر بمثل السرعة التي انتقلنا بها من إصابته بالدوار حتى فتح عينيه.
هو نفسه يتذكر فقط أنه كان واقفا في الصلاة في حال شديد، وبعدها مباشرة فتح عينيه على منظر المجتمعين عليه من أهل الخير والمساعدة. ليس بينهما أي لحظة مسجلة في الذاكرة.

ببطء استعاد صاحبنا وعيه، واجتهد ليتكلم، طالبا منهم العودة إلى الصلاة، وبقي المصلي بجانبه معه وهو طبيب. أسعفه وأعطاه بعض النصائح ثم عاد ليصلي، حتى إذا قضيت الصلاة كان وعيه قد عاد إليه، لكن بقي التعب والدوار بشدة.

أحضروا له سيارة وأخذوه إلى المنزل حيث ظل بين النوم واليقظة، وكل ما مر الوقت اشتد حاله حتى أخذوه إلى المستشفى القريب، حيث حقنوه بما لا يدري وأعطوه الأدوية، حتى إذا عاد للمنزل اشتد به الحال أكثر، وأصيب بالحمى، وظل طوال الليل يتقلب غير قادر على النوم ولا على البقاء متيقظا. ما أطول مثل تلك الليالي.

أشرقت الشمس، وارتفعت قليلا، وهو على تلك الحال، وإذا به يشعر بفوضى غير طبيعية في المنزل، فتحامل على نفسه وقام ليرى ما الأمر، وإذا بهم يخبرونه بوفاة إحدى قريباته، في الثلاثين من عمرها، ولها زوج وثلاثة أولاد. ماتت فجأة رحمها الله ولم يكن بها مرض ولا وجع. اضطر عندها إلى التحامل على نفسه والعمل على تهدئة الحزن المخيم على العائلة، ثم التصرف في إجراءات الدفن ومواساة الأهل وغيرها من الأعمال التي تطرأ في مثل تلك الحوادث.

سبحان الله، هل ماتت حقا؟ من الصعب تصديق موت مثلها هكذا دون حادث، ودون مرض، ودون مقدمات، كانت جالسة في عرس، فأحنت رأسها ولم ترفعه بعدها، بهذه البساطة انتهت تلك الحياة!

ماذا لو كانت سقطته في المسجد في اليوم الماضي هي السقطة الأخيرة؟ ماذا عن قائمة الأعمال التي كان يحملها في جيبه، ما قيمتها؟ ما وزنها؟ ماذا عن آماله وأهدافه وأولاده؟ لقد شاهد بعينه ما الذي سيحصل. يدفنونه في مكان مرعب وينصرفون عنه، ثم كلام كثير، ودعاء قليل. الناس ستشغل أهله برواية قصة وفاته وقصة حياته، وهم يحسبون أنهم يؤدون واجب التعزية والمواساة! وسينشغلون بذلك عن الدعاء له. ولا ينفعه إلا ما قدم هو وما عمله بنفسه.
يتوقع القارئ الكريم الآن أن يقرأ موعظة عن الاستعداد للموت وقصر أمد الحياة ووجوب استغلالها في عمل الآخرة. بدلا عن ذلك، من الأنفع أن نجلس –أخي القارئ الكريم- ونفكر: ماذا لو كنت مكانهما؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق